فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
«اللاَّمُ» في قوله: {لتَجدنَّ} هي لامُ القسم.
وقد تقدّم إعْرَابُ هذا في نحو قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96]، فأغْنَى عن إعادته.
وقال ابنُ عطيَّة: «اللامُ للابْتداءِ»، وليس بشيء، بل هي لامٌ يُتلَقَّى بها القسمُ، و{أشدَّ النَّاسِ} مفعولٌ أوَّل، و{عَدَاوَةً} نصب على التمييز، و{لِلَّذِينَ} متعلِّقٌ بها، قَوِيَتْ باللامِ؛ لمَّا كانت فَرْعًا في العمل على الفعل، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها؛ فهي كقوله: [الطويل]
-....... وَرَهْبَةٌ ** عِقَابَكَ.......

ويجوزَ أن يكون {لِلَّذِينَ} صفةً لـ {عَدَاوَةً} فيتعلَّقَ بمحذوف، و{اليَهُودَ} مفعولٌ ثانٍ، وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكون {اليهُودَ} هو الأولَ، و{أشَدَّ} هو الثاني» وهذا هو الظاهرُ؛ إذ المقصودُ أنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركينَ بأنَّهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناس موَدَّةً لهم، وليس المرادُ أنْ يخبرَ عن أشدِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ بكَوْنِهِم من اليهودِ والنصارى، فإنْ قيل: متى استوَيَا تعْرِيفًا وتنْكيرًا، وجبَ تقديمُ المفعولِ الأول وتأخيرُ الثاني؛ كما يجب في المبتدأ والخبرِ، وهذا من ذاك، فالجوابُ: أنه إنما يجب ذلك حيث ألْبَسَ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك، جاز التقديمُ والتأخيرُ؛ ومنه قول: [الطويل]
بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا، وبَنَاتُنَا ** بَنُوهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ

ف «بَنُو أبْنَاء» هو المبتدأ، و«بَنُونَا» خبره؛ لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء؛ ومثلُه قول الآخر: [البسيط]
قَبِيلَةٌ الأمُ الأحْيَاءِ أكْرَمُهَا ** وَأَغْدَرُ النَّاسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا

«أكْرمُهَا» هو المبتدأ و«الأمُ الأحْيَاءِ» خبرُه، وكذا «وَافِيهَا» مبتدأ و«أغْدَرُ النَّاس» خبره، والمعنى على هذا، والآيةُ من هذا القبيلِ فيما ذكرنا وقوله: {والذينَ أشْرَكُوا} عطفٌ على اليَهودِ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها.
فصل:
تَقْدِيرُ الكلام قَسَمًا: إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكينَ أشَدّ عَدَاوةً مع المُؤمنين، وقدْ شَرَحْتُ لك أنَّ هذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَة عادةٌ قَدِيمَةٌ، ففرِّغْ خَاطِرَك عنهم، ولا تُبَالِ بمكْرِهِم وكيْدهِم.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بأنَّ} مبتدأ وخبرٌ، وتقدم تقريره، و{مِنْهُمْ} خبر «إنَّ»، و{قِسِّيسِينَ} اسمها، وأن واسمُها وخبرها في محلِّ جرِّ بالباء، والباءُ ومجرورُها هاهنا خبر {ذَلِكَ}، والقِسِّيسِينَ جمع «قِسِّيس» على فَعِّيلٍ، وهو مثالُ مُبالغة كـ «صدِّيقٍ»، وقد تقدَّم، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابدُهُمْ، وأصلُه من تَقَسَّس الشَّيْء، إذا تَتَّبَعَهُ وطلبَهُ باللَّيْلِ، يقال: «تَقَسَّسْتُ أصْواتَهُم»، أي: تَتَبَّعْتهَا باللَّيْلِ، ويُقال لرئيس النصارى: قِسٌّ وقِسِّيسٌ، وللدليلِ بالليلِ: قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ، قاله الراغب، وقال غيرُه: القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ، ومنه سُمِّيَ عالم النصارى؛ لتتبُّعِه العِلْمَ، قال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاجِ: [الرجز]
أصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الأذَى غَوَافِلاَ ** يَمْشِينَ هَوْنًا خُرُدًا بَهَالِلا

ويقال: قَسَّ الأثَرَ وقصَّهُ بالصَّاد أيضًا، ويقال: قَسٌّ وقِسٌّ بفتح القاف وكسرها، وقِسِّيس، وزعم ابن عطية أنه أعجميٌّ مُعَرَّبٌ، وقال الواحديُّ: «وقد تكلَّمتِ العربُ بالقسِّ والقِسِّيسِ» وأنشد المازنيُّ: [الرجز]
لَوْ عَرَفَتْ لأيْبُلِيِّ قَسِّ ** أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ

حَنَّ إليها كَحَنين الطَّسِّ

وأنشد لأميةَ بْنِ الصَّلْتِ: [البسيط]
لَوْ كانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ ** يُحْييهِمُ اللَّهُ فِي أيْديهِمُ الزُّبُرُ

هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ، ثم قال: «وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ: ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ» يعني: بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه، قيل له: «قِسِّيسٌ»، وقال قطربٌ: القَسُّ والقِسِّيسُ: العَالِمُ بلغة الرُّوم؛ قال وَرَقَةُ: [الوافر]
بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ ** مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا

فعلى هذا: القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان، قلتُ: وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ «القُسّ» بضم القاف، لا مصدرًا ولا وصْفًا، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ، فهو عَلَمٌ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية، ويكون أصلُه «قَسٌّ» أو «قِسٌّ» بالفتح أو الكسر؛ كما نقله ابن عطية، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ، وهو الذي قال فيه عليه السلام: «يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ»، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ، فجمعُ تصحيحٍ؛ كما في الآية الكريمة، قال الفراء: «ولو جُمِعَ قَسُوسًا»، كان صوابًا؛ لأنهما في معنًى واحدٍ يعني: قِسًّا وقِسِّيسًا، قال: ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على «قَسَاوِسَة» جمعوه على مثال المَهَالبَة، والأصلُ: قَسَاسِسَة، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واوًا، وأنشدوا لأميَّة: [البسيط]
لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ

قال الواحديُّ: «والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس»، قلت: كأنه جعل هذا المصدر مشتقًّا من هذا الاسْمِ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً، قال شهاب الدين: ولا أدري ما حملَ مَنْ قال: إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم؟.
والرُّهْبَانُ: جمعُ رَاهِبٍ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ، وقال أبو الهيثمِ: «إنَّ رُهْبَانًا يكُونُ واحِدًا ويكون جَمْعًا»؛ وأنشد على كونه مفردًا قول الشاعر: [الرجز]
لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ ** لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ

ولو كان جمعًا، لقال: «يَعْدُونَ» و«نَزَلُوا» بضمير الجمع، وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ؛ لتأوُّله بواحدٍ؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66]، فالهاء في «بُطُونِهِ» تعود على الأنعامِ؛ وقال: [الرجز]
وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ

في «بَرَدَ» ضميرٌ يعودُ على «ألْبَان»، وقالوا: «هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه»؛ وقال الآخر: [الرجز]
لَوْ أنَّ قَوْمِي حِينَ أدْعُوهُمْ حَمَلْ ** على الجِبَالِ الشُّمِّ لانْهَدَّ الْجَبَلْ

إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه، ومن مجيئه جمعًا الآيةُ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعًا؛ وقال كثيرٌ: [الكامل]
رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ ** يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا

لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا ** خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا

قيل: ولا حُجَّة فيه؛ لأنه قال: «والَّذِينَ» فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ؛ لأجلِ هذا الجمعِ، لا لكونِ «رُهْبَانٍ» جمعًا، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ: [الكامل]
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا ** والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ

قال أبو الهيثم: وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ «رَهابين ورَهَابَنَة»، جاز، وإنْ قلت: رَهَبانِيُّونَ كان صوابًا؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ، وهي المخافةُ، وقال الراغب، «والرُّهْبَانُ يكون واحدًا وجمعًا، فمنْ جعلهُ واحدًا، جَمعه على رَهَابِينَ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ»، يعين: أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة، وقال الليث: «الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب: التعبُّد في صَوْمَعَة»، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس، ولا حاجةَ إلى هذا، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِن وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ، وهو الخوفُ، ولذلك قال الراغب: «والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة»، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40].
وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ: أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا، قال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} [البقرة: 96] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ، لأن من كان حَرِيصًا على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالًا وَجَاهًا، وأمَّا النَّصَارى، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ، سَهْل الانقِيَاد له، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن، وهو المرادُ بقوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}.
وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ، واليَهُودُ: لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى}.
وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ خَطِيئةٍ».
قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} نسقٌ على «إنَّ» المجرورةِ بالباء، أي: ذلك بما تقدَّم، وبأنَّهم لا يستكبرون. اهـ. باختصار.